عيادة سلمى

د. أحمد النعيمي

عيادة سلمى

رواية للأطفال

الأدب التعليمي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواية

الدكتور أحمد حمد النعيمي

img

عيادة سلمى

إلى بناتي:

روان وليان ويارا

الفصل الأول

العائلة

وأخيراً أذكركم بالقول المأ ثور: “الصحةُ تاجٌ على رؤوسِ الأصحاء، لا يراهُ إلاّ المرضى”. كانت هذه الكلماتُ خاتمةَ خطبةٍ ألقاها أحدُ المدرسين بمناسبة احتفال المدرسة بيوم الصحة العالمي، وكانت ما تزال تتردد في ذاكرة سامي أثناء عودته إلى البيت.

سامي طالبٌ في الصف الأول الثانوي ، عادَ وفي ذهنه أن يروي لعائلته تفاصيل ذلك الاحتفال الجميل، وحين دخل إلى البيت أخبرته الأم بأن سامراً يعاني من ألم حادٍ في أسنانه، وأن الأب سيصطحبه بعد قليل إلى طبيب الأسنان، وعندما سأل عن أخته سلمى أخبرته الأم بأنها في المكتبة العامة للاطلاع على بعض الكتب التي تهمها؛ لأن إجازتها الدراسية غير طويلة.

سامر طالبٌ في الصف التاسع الأساسي ، لم يكن يهتم بأسنانه رغم أن والدته كانت قد اشترت له أكثر من فرشاة أسنان، وحذرته كثيراً من عواقب الإهمال، وهو مع ذلك دائم الإهمال للفرشاة، حتى إنَّهُ ينسى المكان الذي يضعها فيه.

كان سامي يختلف عن أخيه سامر ، فلم يكن سامي مستعداً لأن يسمح للسوسة بأن تتسلل إلى أسنانه وتُلْحِقُ الضرر بها؛ لذلك كان
مواظباً على استخدام الفرشاة، ودائم الاستجابة لنصائح أمه وأخته الكبرى سلمى التي تدرس طب الأسنان في الخارج.

قال سامي لأخيه: ” هل رأيت نتيجة الإهمال؟”.

قال سامر :” لاتلمني الآن…. فلا يمكن لي أن أحتمل الألم والملامة معاً”.

قال سامي: ” أنت من جلب الألم إلى نفسه”.

قال سامر وهو يصرخ من شدة الألم : ” آه… يا لهذه السوسة!! متى أخلص منها؟!”.

وما إنْ أكمل سامر جملته الأخيرة حتى سمع صوت الأب ينادي: “هيا نذهب ياسامر”.

ذهب سامر مع والده – الذي يعمل مديراً لإحدى الشركات- إلى طبيب الأسنان، فقام الطبيب بحفر الضرس التي نخرها التسوس، ووضع فيها حشوة معينة ، وحين رأى سامر معاملة الطبيب اللطيفة قال له: ” أذكر يا دكتور أن أسناني حين كانت تتساقط كان ينبت لي غيرها، فهل، لو سقطت إحداها الآن سينبت لي غيرها؟”.

ضحك الطبيب وقال: “لا…….. لن ينبت لك غيرها، كان ذلك
في المرحلة الأولى من عمرك ، وكانت تلك الأسنان تسمى الأسنان الحليبية أو ( اللبنية ) كما يسميها بعض الناس، وهي تظهر، ثم تسقط، وتظهر بعدها الأسنان الدائمة ، ولكن عليك من الأن فصاعداً أن تستخدم الفرشاة لتنظيف أسنانك بانتظام، لآنّ التسوس قد يعود ثانية إذا أهمل الإنسان أسنانه، وتناولَ الحلويات بكثرة”.

قال سامر : ” ولكني أحب الحلويات !”.

قال الطبيب :” كلنا نحب الحلويات، ولكن علينا ألاّ نتناولها بإفراط ، وأن نستخدم الفرشاة لتنظيف أسناننا من بقاياها… ولا تنس أنه علينا أن نستبدل الفرشاة كل ثلاثة أشهر؛ لأن استعمالها لفترة أطول من ذلك قد يؤذي اللثة”.

عندما عاد سامر ووالده من عيادة الطبيب كان الألم قد زال وراحت الأم تنصح ابنها بأن يعتني بأسنانه، ثم طلبت من ابنتها الكبرى سلمى – والتي كانت قد عادت من زيارة المكتبة العامة – أن توصي أخاها بالمحافظة على أسنانه، فلعله – في هذه المرة – يطيعها، خاصة بعد أنْ أحسَّ بالمعاناة التي يسببها الإهمال.

سلمى في السنة الجامعية الأخيرة من دراستها لطب الأسنان في إحدى جامعات لندن، وهي الآن في إجازة دراسية، وقد قررت أن تستجيب لطلب والدتها بأن تروي لسامر قصة خياليةً لطيفة ً كانت قد روتها لها خالتها وهي صغيرة.

كان أفراد العائلة قد بدأوا يتحلقون حول سلمى حين قالت لسامر مبتسمة: ” ربما تكون هذه القصة لمن هم أقل منك عمراً، ولكنها على أية حال قصة مسلية ٌ وذات مغزى، تدور أحداثها حول فتاة ٍ كانت تهمل أسنانها، وترفض استخدام الفرشاة حتى هاجمت السوسة أسنانها الجميلة، وأخذت الفتاة تتألم وتصرخ.

عندها قررت الذهاب إلى طبيب الأسنان الذي عالج أسنانها، وقدم لها الفرشاة كهدية ، وعندما بدأت الفتاة تستخدم الفرشاة تخيلتْ بأن الفرشاة تتحدث إليها وتقول:” إذا واظبت يا عزيزتي على استعمالي فلن أسمح للسوسة بالاقتراب منك بعد اليوم، فأنا والتسوس لن نكون صديقين أبداً، لأنّ لنا وظيفتين وغايتين مختلفتين، فوظيفتي هي البناء ، بينما الهدم هو وظيفة السوسة وغايتها”.

عندما سمعت السوسة هذا الحديث قالت للفرشاة: ” إذا كنت قادرة على منعي من الوصول إلى هذا البيت فسأجد بيوتاً أخرى كثيرة أدخلها، فمتعتي الحقيقية هي عندما أبني بيتاً داخل فم الإنسان وأراه يتألم”.

قالت الفرشاة: ” من السهل أن يتخلص منك الإنسان؛ لأنَّ منظرك قبيح، ولأنك تسببين له الآلام، أما أنا فلن يتخلص مني؛ لأنني أقوم بمساعدته في منعك من الوصول إلى أسنانه الجميلة، كما
أن ألواني زاهية، على العكس من لونك أنت”.

وهكذا ظلت السوسة لا تخشى شيئاً مثلما تخشى الفرشاة، لأنها تعرف أن الفرشاة هي الأقدر على جعلها تحمل أمتعتها وترحل بعيداً.

أُعْجِبَ سامر بالقصة التي سردتها له سلمى، وقال لها : ” شكراً لك يا أختي، وأعدك بأنني سوف أساعد الفرشاة في أداء عملها لمنع السوسة من الاقتراب من أسناني”، ثم نظر ألى سامي وقال له مازحاً: ” لا تنس أن تستخدم الفرشاة يا سامي!”.

ضحك سامي وقال : ” أخيراً عرفت قيمة الفرشاة يا سامر!”.

كان أفراد العائلة كلهم بمن فيهم الجد والجدة قد تحلقوا حول سلمى، وكانت الأم تحمل في حضنها فادي الصغير الذي لا يزيد عمره عن بضعة أشهر ، فقالت وهي تنظر إلى سلمى : ” هل علمت أنه نَبَتَ في فم فادي اثنتان من الأسنان الصغيرة واحدة في الفك السفلي، والثانية في الفك العلوي؟”.

سُرَّتْ سلمى لهذا الخبر، ثم حملت أخاها الصغير، وراحت تداعبه لترى أسنانه، فقال سامر: ” لقد قال لي الطبيب إنّ هذه الأسنان تسمى الأسنان الحليبية أو اللبنية “.

قالت سلمى:” هذا صحيح، ويتم استبدالها في الراحل الأولى من
عمر الإنسان، والأسنان الحليبية لها أهميتها الخاصة، فمثلاً تعتقد بعض النساء خطأ أنه بالإمكان قلع السن الواحدة عدة مرات ما دام الطفل صغيراً، ظناً منهن أن سناً بديلة له ستنبت في كل مرة، لذلك يجب التنبيه إلى خطورة هذا الاعتقاد الخاطئ، فالسن اللبنية لا تُبَدَّل إلاّ مرة واحدة فقط ، ويتوجب علينا أنْ نحافظ على أسنان أطفالنا اللبنية، وأن نحميها من كل أذى ، فإذا أُهملت هذه الأسنان قد تصاب بالتقيح، مما يؤذي السن الدائمة التي تحتها، ويسيء إلى صحة الطفل”.

سأل سامي أخته:” كيف تتكون أول سن في فم الإنسان؟”.

قالت سلمى :” إن ظهور السن الأولى في فم الطفل لا تعني البداية بالنسبة لأسنانه، فالأسنان تبدأ في التكوين داخل عظام الفكين في الأسبوع السادس من عمر الجنين، وهو في بطن أمه، ويولد الطفل دون أسنان ظاهرة في فمه، وإنما تكون مختبئة داخل عظم الفكين، كما تكون بذرة القمح مختبئة في التراب قبل أن تنبت وتصبح سنبلة، حيث تبدأ الأسنان في الظهور بعد ستة أشهر تقريباً، لتكتمل خلال سنتين ونصف السنة.

طوال تلك الفترة كان الجد والجدة يستمعان بصمت، فقال سامر مازحاً وهو ينظر إلى جده: ” كيف يمضغ بعض كبار السن الذين فقدوا أسنانهم الطعام؟”. ضحك الجد وقال مازحاً:” أتريد أن تفسد عليّ متعة الاستماع أيها الشقي ؟”.

قالت سلمى وهي تضحك:” أعرف أنّ سامراً شقي يا جدي ولكني أريد أن أقول له:” هناك أسنان ٌ اصطناعية على شكل الأسنان الحقيقية يستطيع كبير السن أن يستعملها، ويمضغ بواسطتها طعامه، وهذا لا يعني أن يحتاج كل كبير في السن طقم أسنان، فهناك من تظل أسنانهم سليمة طوال العمر”.

أضاف سامر مازحاً:” وهل لكَ مثل تلك الأسنان الاصطناعية يا جدي ؟”.

قال الجد مبتسماً: ” نعم .. لي مثلها….ما الذي تريد أن تصل إليه؟ قُلْ لي!… فقد وُلدتُ في قرية صغيرة ٍ ولم يكن في قريتنا آنذاك طبيب أسنان، كما لم يكن هناك من ينصحنا باستخدام الفرشاة؛ لذلك كان استخدام الفرشاة في تلك الأيام أمراً نادراً، وكان بعضنا يستخدم السواك… وتلك القرية هي القرية نفسها التي تزوجت فيها، والتي وهبني الله عز وجل فيها والدكم ، الذي – بعد أنْ كبر وأنهى دراسته الجامعية في المدينة- اضطرته ظروف عمله أن يغادر القرية ويصطحبني أنا وجدتكم معه… أما الآن فقد اتسعت تلك القرية، وصارفيها أكثرمن طبيب أسنان، وانتشرت فيها حكاية الفرشاة الحديثة بأشكالها المختلفة، وأصبحت في متناول الجميع”.

ثم أضاف الجد قائلاً وهو يمسك سامراً من أذنه بلطف : ” هل فهمت؟”.

قال سامر وهو يحاول أن يتظاهر بأنه يتوجع: ” أيْ…أيْ… أيْ… هل تستعملُ الفرشاة لتظيف تلك الأسنان يا جدي؟”.

قال الجد وهو يترك أذن سامر: ” نعم، فأنا أنظفها باستمرار، ولا أهملها مثلما كنت تهمل أسنانك”.

قالت الجدة متباهية ً ومازحة:” أمّا أنا فأسناني طبيعية”.

قال سامراً مبتسماً:” لأنك كنت تحافظين عليها منذ الصغر يا جدتي؛ لذلك لن أهمل أسناني بعد اليوم”. ثم أضاف مازحاً:” ولكن لماذا لا يوجد للنباتات أسنان؟”.

ضحك الجد وهويقول:” وما حاجة النباتات للأسنان؟”.

قالت سلمى:” سؤال سامر كان سؤالاً ذكياً، فالنباتاتُ كائنات حية، ولكن النباتات تختلف عن الحيوانات بأنها تصنع غذاءها بنفسها؛ لذلك فهي ليست بحاجة إلى الأسنان”.

قال سامي:” وكيف كان الإنسان البدائي يعتني بأسنانه؟”.

قالت سلمى: ” تشير حفريات الباحثين ودراساتهم إلى أنَّ الإنسان البدائي لم يعان من تسوس الأسنان، أما الرومان فقد عُرِفَ
عنهم أنهم عانوا من تسوس الأسنان أكثر من غيرهم من الشعوب المعاصرة لهم، ولعل السبب في ذلك عائد إلى استخدامهم العسل في تحلية بعض الأطعمة في الوقت الذي لم يعرفوا فيه فراشي الأسنان، ولا المعاجين لتنظيف أسنانهم ، ولكن الإنسان فيما بعد أخذ يصنع فراشي بسيطة من فروع الأشجار، وبعض الناس كانوا يستخدمون الملح أو الرماد لتنظيف أسنانهم… ونسيتُ أن أقول لكم: روي عن ملكة إنجلترا ( اليصابات الأولى) أنها كانت دائمة الشكوى من أسنانها، ولمّا اقترح طبيبها نزع إحدى أسنانها لم تتشجع حتى تقدم أحد أساقفتها فنزع له الطبيب سناً أمامها”.

قال سامر: ” كم كانت معاناة الناس قديماً كبيرة!”.

قالت سلمى : ” لذلك علينا أن نعرف قيمة الحاضر، فنحن اليوم لدينا الأنواع المختلفة من المعاجين وفراشي الأسنان، بل منذ بدء حكاية الفرشاة وشركات الإنتاج تتنافس فيما بينهما لإنتاج الفرشاة الأفضل والأقوى، والتنافس بين هذه الشركات ما يزال مستمراً، وما تزال الفرشاة تتطور يوماً بعد يوم “.

سأل سامي: ” هل تعتني الحيوانات بأسنانها؟”.
أجابت سلمى: ” الحيوانات التي تفعل ذلك نادرة ، فالتمساح مثلاً له
أسنان كثيرة، ولكنه عاجز عن تنظيفها بنفسه، فيعتمد في تنظيفها

على طائر صغير يقوم له بذلك، فبينما التمساح يرتاح على الشاطئ فاغراً فكيه، يأتي الطائر وينقر بقايا الطعام من بين أسنانه.

قال سامر وهو ينظر إلى والده كمن خطرت على باله فكرة لطيفة: ” لقد اقترب العيد ، ما رأيكم بأن نقوم في عطلة العيد بزيارة إلى حديقة الحيوانات؟”.

قال الأب ضاحكاً:” تريد أن تأخذ رأيي بشكل غير مباشر؟!”.
قالت الأم: “اقتراح جميل”.
قال الأب : “نعم اقتراح جميل، سنزور حديقة الحيوانات في عطلة العيد، وبعد ذلك نذهب إلى الريف لزيارة عمتكم أم طارق وزوجها”.

قال سامر وهو ينظر إلى سامي فرحاً:” سنلتقي بطارق وفراس!”.

قال الجد: ” على بركة الله ، أمّا أنا وجَدَّتكم فلن نذهب معكم؛ لأن المسافات البعيدة تتعبنا، وأرجو أن تنقلوا لأم طارق وزوجها أطيب تحياتنا”.

قالت سلمى: ” سأزور حديقة الحيوانات معكم ، أما العمّة أم طارق فلن يكون باستطاعتي زيارتها ، لأنني حين أعود من الحديقة
سأنجز بعض واجباتي الجامعية، وأستعد للسفر”.

قال سامي:” سأحمل معي دفتر ملاحظاتي وآلة تصوير كي أعمل ألبوما ً خاصاً عن حيوانات الحديقة حين أعود”.

قالت سلمى:” أحسنت يا سامي …. هذه فكرةٌ رائعة”.

الفصل الثاني

في حديقة الحيوانات

في عطلة العيد انطلقت العائلة إلى حديقة الحيوانات، وعند اقتراب الوصول إليها كان سامر وسامي يتساءلان:” ترى ما هي أنواع الحيوانات الموجودة فيها ؟! وهل هي مألوفة لدينا؟! هل نعرف بعضها؟!”.

قُرْبَ باب الحديقة أوقف الأب سيارته فنزل الجميع، ثم قام الأب بشراء بطاقات الدخول إلى الحديقة، بعد ذلك جاء مرشد الحديقة وأخبر أفراد العائلة بأنه سيصطحبهم في جولة داخلها … عندئذٍ أخبر الوالدان أبناءهما بأنهما سيجلسان في متنزه الحديقة مع صغيرهما فادي ليحتسيا الشاي هناك، ويستمتعا بمنظر الحديقة، ثم قالا لسلمى إنّهما يعتمدان عليهما في مساعدة أخويها للتعرف على الحيوانات وطيور الحديقة.

عندما بدأ المرشد يشرح لهم، أخذ سامي يُدَوِّن أسماء الحيوانات والطيور الموجودة، ثم يلتقط لها الصور المختلفة، أمّا سامر فقد انفجر ضاحكاً حين شاهد القرد ( يتنطط) وكأنه يداعب الزوار ويسليهم… كان ذلك قبل أن يواصلوا طريقهم ليروا النمر، والأسد، والأنواع المختلفة للطيور.

سأل سامي أخته سلمى :” هل للطيور أسنان تأكل بواسطتها؟”.

قالت سلمى : ” الطيور تلتقط الحبوب بوساطة المنقار ، ويتم هضمها داخل المعدة”.

أثناء تجوالهم في الحديقة شاهدوا نوعاً من الغوريللا تتألم وتتلوى بطريقة تشد انتباه الزائرين، فاستغربوا من أمرها، وحين سألوا المرشد عن سبب ارتباك الغوريللا أخبرهم بأنّه لا يدري .

أسرعت سلمى مع المرشد لإخبار مدير الحديقة بأمر الغوريللا، ثم قام المدير بدوره باستدعاء الطبيب البيطري الذي باشر بفحص الغوريللا، وبعد أنْ أنهى الطبيب البيطري عمله سأله أحدهم: ” مِمَّ كانت الغوريللا تشكو؟”.

قال الطبيب البيطري :” لقد تبين لي أن التسوس نخر أحد أسنانها، وسوف أخبر مدير الحديقة بالأمر، ثم أتَّخِذ الإجراءات اللازمة لعلاجها”.

دُهش سامي وسامر للذي سمعاه، ولكن الطبيب البيطري أخبرهما بأن أسنان الغوريللا تصاب بالتسوس مثل أسنان الإنسان، لأن الغوريللا تحب تناول الحلويات، وقد اعتاد بعض الزوار على إعطاء الغوريللا كثيراً من المآكل الغنية بالسكر، ثم وضَّح لهم بأنّه سيطلب من مدير الحديقة تعليق لافتة تنص على منع تقديم مثل هذه
الأطعمة للحيوانات من قبل الزائرين؛ لأن القائمين على تربية هذه الحيوانات – وبحكم خبرتهم – يقدمون لها ما يكفي من الطعام الملائم والمناسب.

فرحت سلمى لهذا الاقتراح، وشجعت عليه، لأنّ الحيوان لا يستطيع تنظيف أسنانه، ولا يستطيع أن يميز بين ما هو مفيد لأسنانه وما هو ضار بها، ويجب على الإنسان أن يراعي هذه الأمور.

سأل سامي الطبيب البيطري: ” وهل هناك حيوانات أخرى تصاب أسنانها بالتسوس؟”.

سر الطبيب البيطري لاهتمام سامي بالحيوانات، وقال : “نعم… فالدببة ُ البرية ُ مثلاُ تصاب ُ أسنانها بالتلف، وهذا شائع بين تلك الأنواع من الدببة”.

قال سامر مبتسماً:” أمّا أنا فلن أقدم الحلويات لمثل تلك الحيوانات، ولن أكثر من تناولها لنفسي حفاظاً على أسناني الجميلة، رغم أني مغرم بالحلويات!”.

ابتسم الطبيب البيطري وقال:” أحسنت يا عزيزي، إذْ يجب علينا- نحن بني البشر- المحافظة على أسناننا جميلة تلمع، وألاّ نفتح المجال لعدونا التسوس بالتسلل إلى أسناننا كي يسكن داخلها ويسبب لنا القلق والإزعاج، والألم”.

قدم أفراد العائلة الشكر للطبيب االبيطري، وأخبروه أن سلمى ستصبح طبيبة أسنان عما قريب وبإمكانها أن تواصل لهم الشرح، ثم تابعوا سيرهم داخل الحديقة ، وأخذت سلمى تُصَنِّف لهم الحيوانات، وما هي أنواع الأطعمة التي تأكلها حسب قدرة أسنانها، فقالت لهم :” الحصان مثلاً يعد من آكلات العشب أو ما تسمى بـ ( العواشب) إذ تتميز العواشب بفكين طويلين، وفم كبير واسع ٍ، وصف طويل ٍ من الأسنان الطاحنة المهيأة لطحن الطعام أو جرشه، وتتغذى العواشب بالنباتات فتمضغها وتطحنها جيداً، وهذا يستوجب أن تكون أسنان العواشب عريضة السطح، وكليلة الحد”.

سأل سامي أخته:” وما معنى كليلة الحد؟”.

قالت سلمى:” الكليل هو الضعيف، وكليلة الحد تعني ضعيفة الحد”، ثم أضافت” أمّا النوع الآخر من الحيوانات فيسمى آكلات اللحم مثل : النمور، والأسود، والكلاب وغيرها، فهي تمتلك أسناناً قوية وحادة تمكنها من التقاط فريستها، وتمزيقها، وتقطيع لحمها”.

كان ثلاثتهم ما يزالون يتجولون في الحديقة حينما استوقفتهم ضخامة الفيل ومنظره، وكان سامر مدهوشاً من نابي الفيل حين سأل سلمى :” ما هذان؟!”.

قالت سلمى :” هذان النابان هما في الحقيقة سِنَّان مستمرتا النمو خارج الفم، ويستخدم الفيل نابيه في حفر الأرض، وفي نزع لحاء الشجر، أما الأسنان الأخرى التي داخل فم الفيل فيستخدمها في مضغ طعامه”.

أثناء تجوالهم في الحديقة شاهد سامي فراشة تطير فسأل سلمى:” هل للحشرات أسنان؟”.

قالت سلمى:” إن غالبية الحشرات أو الحيوانات الدنيا- كما يسميها بعضهم – عديمة الأسنان، وتختلف كل حشرة عن الأخرى بطريقة اغتذائها”.

قال سامي:” وهل للأفاعي أسنان؟”.

قالت سلمى:” أسنان الأفاعي دقيقة، حادة، تميل نحو مؤخرة الفم، وهي بذلك تجعل من الصعب إفلات الفريسة من فكيها، وفي الحيات السامة يكون نابا السم معقوفين وجوفاوين، ويتصلان بغدتي السم، وينضغط السم عبر النابين إلى جسد الفريسة”.

قال سامر:” هل تستخدم أسنانها لهذا الغرض؟ إنها أفعى خبيثة وأسنانها كذلك”.

قالت سلمى:” هذه وجهة نظرك، وانت حرٌ بها… ولكن لكل نوع
من الكائنات الحية طبيعته الخاصة، وأسلوبه الخاص في الدفاع عن نفسه، وفي الحصول على طعامه، أما واجبنا نحن فأن نحمي انفسنا ممّا قد يضرُّ بنا”.

في نهاية الرحلة حزم أفراد العائلة أمتعتهم، ثمّ صعدوا إلى سيارة الأب وعادوا إلى البيت، حيث إنهم في اليوم التالي سيذهبون لزيارة العمة أم طارق في الريف.

الفصل الثالث

في الريف

طلب الأب من أفراد العائلة الذين يرغبون في الذهاب إلى الريف لزيارة العمة أم طارق أن يستعدوا للانطلاق، فَفَرِحَ كلٌّ من سامي وسامر وقالا:” سوف نلتقي بابني عمتنا طارق وفراس”، ثم أخذ كل منهما يجهز لنفسه بعض الأشياء التي قد يحتاج إليها هناك.

بقيت سلمى مع جدها وجدتها في البيت، بينما ركب بقية أفراد العائلة سيارة الأب الذي الذي قادها متوجهاً إلى بيت العمة في الريف، وأثناء الطريق كانت العائلة تستمتع بالمناظر الخلابة حيث الأشجار المختلفة، والتلال المكسوة باللون الأخضر، والأزهار ذات الألوان الرائعة.

وحين وصل أفراد العائلة كانت العمة أم طارق وعائلتها في انتظارهم، فنزل الجميع من السيارة ، ثم أخذت العائلتان تتبادلان السلام والعناق قبل أن تتوجها للجلوس تحت أكبر أشجار الحديقة، حيث الهواء الطلق والهدوء.

كان للعمة أم طارق ابنان هما طارق وفراس، فاصطحب فراسٌ سامراً إلى الحقل ليمضيا وقتاً جميلاً في ربوع الأرض الخضراء،
وليستمتعا بالمناضر الخلابة.

كان فراس صديقاً حميماً لسامر فهو في مثل صفه، وكان طارق- الابن الأكبر للعمة – صديقاً حميماً لسامي رغم أن طارقاً يكبر سامياً بعام.

قال سامر:”لقد أحضرتُ معي دفتر الملاحظات الذي دوَّن فيه أخي سامي المعلومات التي أعجبتنا في حديقة الحيوانات، وقد استأذنتُ منه في أن أطلعك عليه”.

تناول فراس دفتر الملاحظات وقرأ ما فيه، ثم قال:” هذا جيد، وأنا لدي صورٌ لبعض الحيوانات والطيور سوف أعطيك بعضاً منها”. فرح سامر بذلك، وراحا يتجولان في الحقل والسعادة تغمرهما.

أما طارق فقد اصطحب سامياً ليريه كرم العنب، وأثناء سيرهما في الكرم قَطَفَ طارق عنقود عنب، وقدمه إلى سامي بعد أنْ غسله من صنبور في الكرم يُستخدم لري الأشجار. أكل سامي عنقود العنب وقال:” طعم العنب لذيذ، ومنظره جميل وهو يتدلى من بين الأغصان!”. قطف طارق عنقوداً آخر، ثم غسله وقدمه إلى سامي. رفض سامي العنقود الآخر وقال: ” عنقود واحدٌ يكفيني، لا أستطيع أن أتناول أكثر من ذلك”.

قال طارق: ” لماذا يا سامي؟”.

أجاب سامي:”لآن الإفراط في أكل السكريات يضر بالأسنان، ويسبب لها التسوس، والعنب يحتوي على كمية كبيرة من السكر.

قال طارق: ” خذ.. كل وتوكل على الله.. لن يحصل لأسنانك شئ”.

قال سامي: ” شكراً… شكراً….لا….لا أستطيع”.

قال طارق:” ألهذا الحد تحافظ على أسنانك، وتخشى عليها من التسوس؟!”.

قال سامي : “طبعاً أخاف على أسناني، لآن التسوس يسبب ألماً حاداً للإنسان”.

قال طارق:” أنا لا أكترث لهذا الأمر، فقد أصاب التسوس أسناني، وذهبت إلى طبيب الأسنان، وعالجها لي”.

قال سامي:” ألم تتعلم درساً من ذلك؟”.

قال طارق ضاحكاً:” الطبيب موجود دائماً!”.

قال سامي:” صحيح أن الطبيب موجودٌ دائماً، ولكن وجود الطبيب لايعني أن نهمل أسنانا، فالطبيب نفسه يوصينا بالمحافظة على أسنانا، انظر لأسنانك كيف تبدو مُصْفَرَّة مما يؤكد بأنك لا تستعمل الفرشاة لتنظيفها… يا صديقي يجب أن تحافظ على أسنانك
لتبدو جميلة ولامعة”.

قال طارق:” لكن تنظيف الأسنان يومياً أمرٌ متعب!”.

قال سامي:” هذا كسل يا صديقي ، فقد أخبرتني أختي سلمى أنه على الإنسان أن يزور طبيب الأسنان مرة كل ستة أشهر أو سنة على أبعد مدى، حتى ولو لم تكن أسنانه مريضة أومصابة بالتسوس، فالأنسان جهاز كبيرٌ، ومعمل ضخم يُحَضِّرُ للجسد غذاءه، وقوام حياته، وعلى الإنسان أن يحافظ على هذا الجهاز سليماً خشية أنْ يفقده مبكراً ويلجأ إلى جهازِ مستعارٍ…إنّي أعجب كيف تتكاسل يا طارق من مجرد استخدام الفرشاة”!.

قال طارق: ” صدقني يا صديقي أنني مقتنع بكل ما قلته، ولكني كنت أنتظر من يشجعني، سوف أذهب اليوم وأشتري فرشاة ومعجون أسنان ، والآن تعال نقطف بعض عناقيد العنب، فقد أوصتني والدتي أن أحضر لها بعض العنب “.

في طريق عودتهما إلى البيت التقيا بفراس وسامر، حيث عاد أربعتهم سوياً. كانت العائلتان ما تزالان مجتمعتين تحت أكبر أشجار الحديقة ، وكانت العمة قد جهزت طعام الغداء. وبعد أن أنهوا الغداء وضعت العمة عناقيد العنب مغسولة على صينيةٍ جميلةٍ، وقدمتها للجميع، فتناول كل منهم حاجته واكتفى.

قالت العمة أم طارق:” العنب لذيذ. كلوا أكثر!”.

قالت الأم:” هذا يكفي، لا نستطيع تناول أكثر من حاجتنا”.

العمة أم طارق وزوجها سألا عن أخبار الجد، والجدة، وعن أخبار سلمى، وطلبا من العائلة أن تنقل إليهم أصدق تحياتهما، فأخبرتهما الأم أن الجد والجدة بخير، وأن سلمى مشغولة بعض الشيء؛ لأنّها تستعد للسفر، وأنها ستعود في نهاية العام الجامعي إلى أرض الوطن وهي تحمل شهادتها في طب الأسنان… أثناء حديث الأم كان الصغير فادي ينظر من حضن أمه إلى قطةٍ بالقرب منهم ويضحك.

فقال سامر:” فادي هوايته الضحك، فهو دائم الضحك!”.

قال سامي مازحاً:” وأنت يا سامر، ما هي هوايتك المفضلة، أليست الضحك أيضاً؟”.

قال الأب مازحاً:” ولهذا جاء فادي يشبه سامراً”.

قالت العمة:” سنأتي كلنا لزيارتكم عما قريب”.

قال الأب:” نحن نرحب بكم دائماً”.

في نهاية الزيارة ودعت العائلة الريف الجميل متمنية العودة في فرصة أخرى، وفي طريق العودة كانت الأم تداعب الصغير فادي، بينما كان سامي وسامر يتحدثان عن جمال الريف، ويلاحظان كيف أنما يتركان تلك المروج الخضراء خلفها أولاً بأول، وكيف تحل مكانها العمارات والبيوت الكثيرة شيئاً فشيئاً.

عندما وصلت العائلة كانت سلمى قد أنهت واجباتها، واستعدت للسفر في صباح اليوم التالي، فأخذت تسأل عن العمة وزوج العمة
وابنيهما ، ثم أوصت سامياً وسامراً بالاستمرار في المحافظة على واجباتهما الدراسية، ورغم أن أفراد العائلة كانوا يشعرون بالحزن لأن سلمى ستسافر، إلاّ أنّهم كانوا يواسون أنفسهم بأن غيابها لن يطول.

وفي صباح اليوم التالي استيقظت العائلة كلها لوداع سلمى، وكان الحزن واضحاً على الوجوه، فقال الجد محاولاً أن يضفي على الجو نوعاً من المرح:” عندما تعودين يا سلمى وتفتحين عيادتك أريد أن تصنعي لي طقم أسنان اصطناعية جديداً”.

ضحكت سلمى وقالت:” عندما أعود – إن شاء الله- سوف أختار لك الطقم المناسب”، ثم قَبَّلت الصغير فادي، وعانقت أفراد عائلتها واحداً.. واحداً، وركبت إلى جانب والدها في سيارته، وراحت تلوح لهم بيدها مودعةً وهي حزينة.

الفصل الرابع

المدرسة

انتهت عطلة العيد، وعاد الطلاب لمتابعة دراستهم، فالتقوا في ساحة المدرسة، وراحوا يقدمون التهاني لبعضهم بعضاً، ويتحدثون عن قضاء العطلة بين الأهل والأرقاب، وتبادل الزيارات.

كان سامي وسامر يتحدثان لزملائهما عن زيارة العائلة للريف، وكم كانا متشوقين لتلك الزيارة، وكيف شعرا بالحزن حين انتهت، كما تحدثا عن زيارة العائلة لحديقة الحوانات، وعما شاهداه هناك.

دخل الطلاب إلى صفوفهم، ودخل المعلمون فألقوا عليهم التحية، وهنؤوهم بالعيد السعيد، وسر الطلاب بالكلمات الجميلة التي قالها لهم المعلمون، وشعروا كم هو جميل أن تظل العلاقة بين المعلم والطالب علاقة مودة واحترام.

بعد ذلك بدأ المعلمون في شرح الدروس حيث طلب مدرس الأحياء في صف سامي من طلابه أن يقوم كل واحدٍ منهم بإجراء نشاط يختاره بنفسه، بحيث يكون بإمكان الطالب أن يكتب في أي موضوع علمي يريد، وأن يختار الشكل الذي يراه مناسباً لموضوعه.

عندما عاد سامي إلى البيت تَنَاول طعام الغداء، ونظَّف أسنانه، ثم استلقى على ظهره قليلاً وراح يفكر بموضوع يثير دهشة زملائه، فاهتدى إلى فكرة الكتابة عن تسوس الأسنان، وكيفية الوقاية منه، كما قرر أن يتطرق إلى أسنان بعض الحيوانات فيتحدث عن شكل وطبيعة كل منها.

ذهب سامي إلى المكتبة، واستعار بعض الكتب التي تتحدث عن الأسنان، وبعد أن قرأ تلك الكتب، ووضع يده على النقاط الهامة فيها، شرع في تخطيط مجلة حائط، واختار”الأسنان” عنواناً لها، حيث لخص فيها أهم المعلومات التي تتحدث عن الأسنان، كما زودها بالصور التي تساعد الطلاب في فهم الموضوعات، وتُرسِّخ النصائح والمعلومات في أذهانهم، وفي الوقت المحدد كان سامي قد أنجز النشاط المطلوب منه، وقدمه إلى معلم الأحياء الذي قرأ كل الموضوعات التي قدمها الطلاب، وأعجب بها، فقد كان هناك الكثير من الموضوعات الهامة واللافتة للنظر، والتي تستحق التعميم، ولكن الموضوع الذي قدمه سامي كانت له أهمية خاصة، فقد أُعجب المعلم بأسلوبه المبتكر والجديد في طرح الفكرة ومعالجتها؛ لذلك قدم له شكراً خاصاً، ثم حَمَلَ المجلة وعرضها على مدير المدرسة الذي قام بدوره بتقديم الشكر لسامي، كما أصدر المدير أمراً بتعليق المجلة في المكان المخصص لمجلات الحائط المميزة، لكي يتسنى لكل الطلاب الاستفادة منها.

عندما عاد سامي إلى البيت أخبر والديه عما قام به من إنجازٍ لأبناء صفه وللمدرسة،وعن التقدير الذي حظي به من المدير ومن معلم الأحياء، وتحدث سامي إلى والديه عن محبته لجميع المواد التي يتعلمها، وعن كونه متعلقاً بمادة الأحياء بشكل خاص، فهو يحبها كثيراً؛ لذلك يريد أن يتخصص قي المستقبل في ( علم الأحياء)، فقال والده:” سأكون سعيداً عندما أراك تحقق رغبتك فمن جد وجد”.

في المساء جلست العائلة لمشاهدة التلفاز حيث البرامج المفيدة والمسلية، بينما كان فادي الصغير يحبو في أرجاء الغرفة، ويحاول الوقوف مستنداً إلى الأريكة، لكنه يتعثر فيسقط على الأرض، ثم يتابع حبوه ومحاولته الوقوف مستنداً إلى الأريكة من جديد فيسقط على الأرض وهكذا.

كان سامر مستغرقاً في النظر إلى التلفاز، عندما فوجئ بفادي – بعد أن يئس من محاولة الوقوف- يحبو إليه ويعضه من يده. صرخ سامر، ثم نظر إلى أمه، وقال مازحاً:” انظري يا أمي لقد قويت أسنانه، وها هو يريد أن يجربها بي”.

قالت الأم ضاحكة:”عندما كنت في مثل سنه يا سامر، كنت مشاكساً أكثر ممّا هو الآن”.

قال سامر مبتسماً: ” وأنت يا أمي عندما كنت صغيرة – مثل فادي الآن- ألم تكوني مشاكسة؟”.

قالت الأم ضاحكة:” أنت دائماً تحاول أن تغلب الجميع يا سامر”.

قال سامر:” امتحانات نهاية السنة على الأبواب، ليتني أتفوق على كل زملائي”.

قالت الأم :” التفوق مسألة بيد الإنسان؛ لأن الاجتهاد هو أساس التفوق”.

كانت امتحانات نهاية السنة قد اقتربت، وكان الطلاب قد بدأوا استعداداتهم لها، لذلك لم يَطُلْ مكوث سامي وسامر في غرفة التلفاز، وانتقلا إلى غرفتهما لمراجعة بعض دروسهما قبل النوم، وأثناء انهماكهما في الدراسة طلب سامر من أخيه سامي أن يساعده في حل بعض المسائل التي استعصت على فهمه ، فقدم سامي المساعدة لأخيه، وعندما تأكد له أن أخاه قد فهم تلك المسائل، اندس كلٌ منهما في فراشه الخاص، وغَطَّا في نومٍ عميق.

في أيام الامتحانات كان سامي وسامر يلتقيان بعد كل امتحان، ويسأل كل منهما الآخر عن طبيعة الأسئلة، هل كانت سهلة أم صعبة؟ وذلك ليطمئنا على بعضهما، وظلاّ على هذه الحال من المثابرة والاهتمام، إلى أن انتهت الامتحانات.

كان من عادة الأخوين بعد ظهور النتائج أن يكتبا رسالة إلى سلمى يخبرانها فيها عن نتائجهما، وعن المجموع الذي حصل عليه كلٌ منهما، وكان من عادة الأب أن يقدم لهما كلما تفوقا هدية لطيفة، أما الجد والجدة فكانا يقبلانهما ويقولان لهما: ” هذا ما نملكه من هدية لكما”، وكان الأخوان يفرحان بتلك القبلة ويقولان لجديهما:” هذه أجمل هدية”.

عندما ظهرت النتائج كان الأخوان قد نجحا، وكان ترتيب سامي الأول في صفه، بينما كان ترتيب سامر الثالث في صفه.

وهكذا فقد فرحت العائلة بالنتيجة، فطبعت الأم قبلة حنونة على جبين كل منهما، ثم طبع الجد والجدة قبلتيهما على وجنة كل منهما، بينما اصطحبهما الأب إلى السوق واشترى لهما ثياباً جديدة ، وحين رجعا من السوق شرعا في كتابة رسالةٍ لسلمى.

الفصل الخامس

الرِّسالة

(1)

جلس سامي وسامر قرب بعضهما، وبدأ سامي بكتابة الرسالة فأخبر سلمى عن العائلة: الأب والأم ، والجد والجدة ، ومشاكسات فادي الصغيرة، ثم بدأ يسألها عن صحتها، وعن الجامعة، والدراسة، ومتى ستعود إلى الوطن لتفرح العائلة بها وعاد، فأخبرها عن نتيجتة وعن نتيجة سامر، وعن قبلتي الجد والجدة، وعن هدية الأب وفرحة الأم ، وعن القبلة الحنونة التي طبعتها على جبين كل منهما، ثم أخبرها عن طموحه في دراسة الأحياء، وأخبرها أيضاً عن أسنان فادي التي يتزايد عددها، وكيف أنه عض سامراً أثناء انشغاله بالنظر إلى التلفاز.

حين أنهى سامي الرسالة ذهب هو وسامر إلى البريد، حيث وضعاها في مغلف، ووضعا عليها الطوابع البريدية، ثم سلماها إلى الموظف المسؤول، وعادا أدراجهما إلى البيت.

في البيت كانت العائلة تناقش بعض الأمور حول مستقبل سلمى، وما الذي سيقدمونه لها عندما تعود إلى الوطن حاملة شهادتها في طب الأسنان، فلا بدَّ أن يرتبوا لها مفاجأةً سارةً، مفاجأة تكون بحجم الحدث،ومستوى طموح سلمى الكبير.

قال الأب: ” سأرتب لها مفاجأة تعجبها وتعجبكم أيضاً”.

تساءل كل من سامي وسامر: “ما هي؟”.

قال الأب ضاحكاً:” لن تكون مفاجأة إذا أخبرتكما عنها!”.

قال سامي:” الفاجأة لسلمى وليست لنا، لذلك لا يوجد مشكلة في أن تخبرنا عنها!”.

قال سامر:”كلام سامي صحيح، فالمفاجأة لسلمى وليست لنا…أمْ أنك تريد أن تشوقنا للمفاجأة يا أبي؟”.

قال الأب: ” نعم أريد أن أشوقكما لها”.

قالت الأم:”أتمنى أن تخبرهما عنها؟”.

قال سامر ضاحكاً وكأنه اكتشف أمراً هاماً:” إذن فأنتِ تعرفين يا أمي ؟”.

قالت الأم:” طبعاً… والدكم لا يخفي عني شيئاً”.

قال سامي:” ما تلك المفاجأة يا أبي؟”.

قال الأب:” ليس الآن”.

قال سامر:” هل يرضيك هذا يا أمي؟”.

قال سامي:” ما هي يا أبي … بالله عليك ما هي؟”.

قال الأب:” حسناً… هي عيادة أسنان… سأفاجئ سلمى بمفتاح العيادة”.

قال سامي:” هل استأجرت العيادة يا أبي؟”.

قال الأب: ” لا… ما زلت أبحث عن عيادة مناسبة”.

(2)

كان من عادة سامي بين فترة وأخرى أن يأخذ مفتاح صندوق البريد من والده، ويذهب إلى هناك ثم يأتي بما في الصندوق من رسائل ومخاطبات، في ذلك اليوم- وبعد أن كان قد مضى أكثر من شهرين على رسالة العائلة لسلمى – وجد سامي في الصندوق شيئين: فاتورة الهاتف، ورسالة من سلمى، لم يكد يصدق عينيه، حيث حمل الرسالة وعاد مسرعاً إلى البيت يستأذن أباه في قراءتها فقال الأب:” اقرأها علينا بصوت عالٍ”، ففتح سامي الرسالة وبدأ القراءة:

عائلتي الحبيبة: أبي ، أمي ، جدي، جدتي ، أخواي

سلامي إليكم جميعاً وبعد،،،

حين وصلتني رسالتكم في بريد الحب محملة بعطر الوطن وأريجه، كنت أتهيأ لتقديم الاختبار الأخير، الذي أعود إليكم بعده طبيبة طالما غمرتموها بحبكم وحنانكم حتى وصَلتْ إلى ما وصَلتْ
إليه، ولم أشأ وقتها أن أكتب إليكم … لقد آثرتُ أن أنتظر النتيجة لأرى إن كانت فرحتي ستكتمل أم سأنتظر وقتاً آخر، وفرصة أخرى… كنت أنتظر النتيجة وكلي أملٌ أن أوقع لكم هذه الرسالة باسم الدكتورة سلمى… فبكيت وبكيت… وأنا أرى كل واحد منكم عبر سطور الرسالة، وأشم رائحة أبي، وأمي، والوطن.

كنتُ سعيدة بالنتائج التي حققها سامي وسامر في مدرستهم، وكنت أحاول أن أترك مساحة تلك الفرحة تغتال دموعي وتحبسها عن الجريان، لكن هيهات وأنا بعيدة عنكم… بعيدة عني، فالبعيد عن أهله ووطنه بعيد عن نفسه، لا يلملم شظاياه سوى ذكرياته السعيدة بينهم، وأحلامه برؤياهم ولقياهم حين ينام وحين يصحو.

بكيت وأنا أتخيل الصغير فادي يعضني بأسنانه الحليبية قبل أن يعض سامراً، وسمحت لخيالي بأن يسرح في دغدغات تلك الأسنان… أسنان أخي.

كم يحلم الإنسان بالتنقل بين الأمكنة! وكم يحلم بالسفر!، وفي مستقبل يبنيه لبنة فلبنة!… يحلم بكل ذلك ناسياً أو متناسياً دفء حضن الأسرة الأولى، والمكان الأول، وحين تجري به الأيام بعيداً عن كل ما هو أول، وعن كل ما هي أولى في حياته يكتشف كم هو جميل العطر الأول، وكم هو جميل الدفء الأول، وكم هو جميل المكان الأول.

لن أطيل عليكم فقد تقدمت لذلك الامتحان الأخير، وظهرت النتيجة فازدادت دموعي يومها جرياناً، وازداد حنيني إليكم، وتعلقي بكم وعدت لأقرأ مرة أخرى رسالتكم التي وصلتني في بريد الحب، فأحياناً حين تقصر المسافة يصبح الأنسان أكثر حنيناً، ويستعجل من داخله الوصول ألى غايته… وكيف لا أستعجل الوصول وأنتم أهلي وغايتي؟!.

هل تعرفون ماذا كانت النتيجة ؟ لقد نجحت … نجحت وبتفوق، وحين رأيت المسافة بيني وبينكم غدت قصيرة بكيت وأنا أتمنى لو أتحول إلى طائر بجناحين لا يتبعهما الطيران لأختصرالمسافة، وأكون بينكم في أسرع وقتٍ وأقصر طريق.

عائلتي الحبيبة: أبي، أمي ، جدي ، جدتي ، أخواي

ابنتكم ما خذلتكم يوماً … انتظروني على أرض المطار في الخامس والعشرين من الشهر الجاري الساعة الرابعة عصراً.

ابنتكم: الدكتورة سلمى

الفصل السادس

عَوْدَةُ سلمى

(1)

قبل موعد قدوم سلمى بأيام قليلة دخل الأب إلى البيت وهو باسم الثغر متهلل الأسارير، وفي يده ورقة يلوح بها ، ويقول لأفراد العائلة : ” أخيراً وجدت العيادة المناسبة لسلمى”.

قالت الأمُّ : ” إذاً يجب أن نذهب جميعاً لمشاهدة العيادة “.

قال الأب : ” حسنٌ … سأرتاح قليلاً، ثم نذهب بعد ذلك”.

في تلك الأثناء كان سامر خارج البيت، وحين عاد بادره سامي بالقول : ” استعدْ للخروج معنا”.

قال سامر: ” إلى أين ؟”.

قال سامي: ” ستعرف ونحن في الطريق “.

قال سامر :” لماذا ليس الآن ؟”.

قال سامي :” إن كنت ذكياً فاعرف وحدك”.

قال سامر” ل… ل … ل… لزيارة أحد أصدقاء والدي… بل … بل …في نزهة”.

قال سامي ضاحكاً: يبدو أن بديهتك ليست كما يجب”.

قال سامر: ” لماذا تصعب عليّ المسألة يا سامي ؟… سأسأل أمي”.

قال سامي ضاحكاً: ” سأخبرك شفقة عليك، لقد استأجر والدي عيادة لسلمى ، وسنذهب لمشاهدتها”.

وبينما كان سامي وسامر يتحادثان ، إذا بالأب ينادي : ” هيا نذهب”، فخرج الجميع وصعدوا إلى سيارة الأب، وحين وصلوا إلى هناك أخذوا يتخيلون شكل سلمى، ومدى فرحتها حين ترى عيادتها.

كيف ستكون تعابير وجهها؟ ما الذي ستقوله؟ كيف ستعبر عن فرحتها؟ بماذا ستصف عيادتها في ذلك الموقع الجميل؟ ما شكل اللافتة التي ستختارها؟ ما شكل الديكور الذي ستختاره ؟ ثم راحوا يتخيلونها وهي ترتدي الثوب الأبيض وتعالج مرضاها.

(2)

في اليوم الخامس والعشرين من ذلك الشهر انطلقت العائلة باتجاه المطار، وفي الطريق إلى المطار أوصى الأب الجميع بألاّ يخبر أحد سلمى عن موضوع العيادة ، لأنه يريدها مفاجأة لها، ثم انشغل سامي وسامر بالحديث عن الطائرات والطيران، وعن قدرة الإنسان العجيبة على الاكتشافات العلمية ، وتقريب المسافات، وكان سامر فرحاً، لأنه سيشاهد طائرات عن قرب.

عند وصول أفراد العائلة جلسوا في قاعة انتظار القادمين، حيث كانت الموظفةُ بين فترة وأخرى تَذْكُر أسماء الطائرات القادمة، وتذكر البلدان التي جاءت منها، وعندما سمعت العائلة اسم الطائرة القادمة من لندن وقف الجميع، وراحت دقات قلوبهم تتسارع، وإذا بسلمى تلوح لهم من على السلم المتحرك الذي يساعد الركاب بالنزول إلى أرض المطار، فأخذت العائلة تبادلها التلويح بينما دموع الفرح تكاد تفر من العيون، وما إنْ نزلت سلمى حتى راحت تعانق أفراد العائلة ، والدموع تنهمر من عينيها.

في الطريق إلى البيت كانت سلمى تداعب الصغير فادي ، وتسأل عن صحة الجد والجدة، وتتحدث عن النجاح الذي حققته، وعن تفوقها، وقالت ضاحكة:” من الآن فصاعداً أنا طبيبة الأسنان الأولى في العائلة”. ابتسم الأب وقال: ” هذا فخرٌ لنا جميعاً “. وفي البيت كان الجد والجدة بانتظار أفراد العائلة على أحر من الجمر، وحين وصولهم أسرعتْ سلمى إليهما، فعانقتهما بحرارة، بينما كانا يقولان لها:” نريدك دائماً ناجحة ً ومتفوقة”.

في مساء ذلك اليوم، وبعد أن شعر الأب أنّ سلمى أخذت قسطا ً من الراحة سألها : ” ماذا تخططين لمستقبلك؟”.

قالت سلمى:” سوف أراجع وزارة الصحة للحصول على شهادة مزاولة المهنة، كما سأبحث عن عيادة في موقع جميل ، ولا أعرف كم سيأخذ ذلك من الوقت ، لكني على أية حالٍ أحضرتُ معي بعض المعدات الهامة للعيادة”.

قال الأب:” سوف أساعدك في البحث عن العيادة”.

(3)

في اليوم التالي قال الأب للعائلة:” هيا نخرج لنبحث عن عيادة في موقع مناسب “، فركبت سلمى ، وأفراد العائلة في سيارة الأب الذي اتجه بهم إلى موقع يعرفونه كلهم باستثنائها، وحين وصل الأب أمام العمارة التي فيها العيادة، أوقف سيارتهُ وقال لهم :” هيا نسأل هنا”.

قالت سلمى:” لا أعتقد أن في هذه العمارة شيئاً للإيجار، إنها جميلة جداً، والأشياء الجميلة سرعان ما يتخاطفها الناس”.

قال الأب: ” من الأفضل أن نتأكد”.

قالت سلمى:” من الأفضل أن نوفر الوقت على أنفسنا ونذهب إلى مكان آخر”.

قال الأب : ” لن نخسر شيئاً إذا حاولنا “.

نزل أفراد العائلة من السيارة، وحين صعدوا الدرج إلى الطابق
الثاني، فوجئت سلمى بوالدها يستخرج مفتاحاً، ويفتح أحد الأبواب، ويقول لها ” تفضلي يا دكتورة”.

قالت سلمى وكأنها لا تصدق:” ما هذا يا أبي؟”

قال الأب: “هذه عيادتك، وهي هدية العائلة لك”. ثم استخرج من جيبه ورقة وقال لها:” هذا عقد الإيجار، ولم يبق إلا توقيعك”.

كادت سلمى تطير من الفرح، ثم راحت تعانق أباها وتشكره على هذه الهدية الجميلة، وبعد ذلك بعدة أسابيع حصلت سلمى على شهادة مزاولة المهنة من وزارة الصحة، ثم أصبحت عضواً في نقابة أطباء الاسنان ، وبدأت عملها في العيادة وكانت قد علقت في مدخل عيادتها صورة كبيرة للوحة تحمل رسماً لفرشاة مكتوب عليها:” صحة الأسنان للجميع باستخدام الفرشاة”.

كانت سلمى تسمي تلك الفرشاة :” الفرشاة العجيبة”.

About The Author

Related posts