
الصبي النائم
نجلاء حسون
اصطدم بصري منذ دخلت ذلك المبنى الضخم بكتلة ممدة فوق قطعة من الكرتون، لونها مثل لون القطعة الكرتونية نفسها، كانت ممدة إلى يسار الدرجات التي سوف أصعدها مع صديقتي كي نحتسي القهوة، ونتبادل الأحاديث كسراً للروتين وتحديا للظروف الجوية الماطرة الباردة. الطابق الأول من ذلك المبنى، سوق كبير، فيه محال تجارية متنوعة، أمّا الطوابق الثلاثة العلوية، فهي عبارة عن مقاه ومطاعم، وأمام واحد من المحال التجارية كانت الكتلة التي اصطدم بها بصري.
اقتربت من الكتلة ببطء، نظرت إليها نظرات شك في أن أصدق ما أرى، كان صبياً رأسه مغطى بقطعة كرتون تحجب الأضواء عن عينيه، مستغرقاً في نوم عميق. كان يرتدي معطفاً اصطبغ لونه بالتراب والطين والأوساخ وبقع الزيت… كانت تتدلى من جيب المعطف، المشقوقة إلى نصفها، قطعة خبز جافة، ربما شبع قبل أن يكملها، فخبأها ليأكلها عندما يصحو، وربما اختصرها من وجبته كي يجد ما يأكله عندما يتضور جوعاً. كان يرتدي بنطالا، لا يفرق لونه عن لون المعطف ولا عن لون الجزء المكشوف من ساقيه لقصر البنطال، فهو أيضا بلون قطعة الكرتون ولون حذائه المهترئ الممزق الجوانب. كان متّخذا في نومه، وضعية الجنين في بطن أمه، واضعاً رأسه المغطى بقطعة الكرتون على صدره، وضاماً كتفيه ليضع يديه بين فخذيه، حانياً ركبتيه، وكأنَّه يحضن نفسه ليحس بالدفء.
هزتني صديقتي من كتفي قائلة: هيّا ، أتبقين واقفة هكذا؟ لقد تجمع الناس حولنا، إنَّه صبي نائم. أدرت رأسي نحوها، ثم نحو الناس الذين تجمعوا، ثم أنزلت شالي عن كتفيّ ووضعته برفق فوق جسد الصبي، ربما ليضيف إليه قليلاً من الدفء. انحنيت، جلست أمام الصبي النائم، وبهدوء رفعت قطعة الكرتون التي تغطي وجهه كي لا أوقظه، كان وجهاً بريئاً جميلاً، تميل بشرته إلى اللون البرونزي من كثرة تعرضها للشمس، وشعره البني المغبر منسجم تماماً مع لون بشرته ولون قطعة الكرتون التي يفترشها، ممَّا جعله وكأنه جزء منها أو هي جزء منه. تذكرت ابني الذي في مثل عمره تقريباً، نائما في سريره تحت غطاء صوفي ناعم وفوقه آخر. أين أمه؟ لماذا هو هنا، تساءلت وأنا أحس بالحزن والجرح، ثم سمعت همهمات الواقفين حولنا، لم أركز ماذا كانوا يقولون ، لكني نظرت في وجه أحدهم وقلت بذهول .. كيف ينام رغم كل هذا الضجيج؟ ألا يشعر بنا؟ ابتسم الرجل وقال: يركض طوال النهار بين السيارات، من إشارة مرور إلى أخرى ليبيع المناديل والعلكة… ربتت صديقتي على كتفي بحنان هذه المرة، أدرت رأسي نحوها، فالتقت عيوننا المبتلة بالدموع وتعانقت أحاسيسنا ولم نستطع النطق بأي كلمة. أدرت رأسي نحو الصبي، وضعت يدي برفق على رأسه أمسحه بحنان وهدوء، ففتح عينيه بذعر، أيقظته لمستي الرقيقة التي لم يعتدها، بينما لم توقظه كل الفوضى والضجّة التي حوله. كانت عيناه تحدق في وجهي، في نظراته خوف، رعب، فابتسمت له أطمأنه، إلا أنَّه انتفض قائلا: مَن أنت؟ ماذا تريدين مني؟ أنا لا أعرفك، لم آخذ منك شيئا. هدهدت بأصابعي على كتفه بحنان والحزن يهزّ قلبي، مشاعري تدفعني لأن أحتضنه، أضمه إلى صدري، أشعره بالأمان لكني لم أجرؤ، قلت : اهدأ يا بني، لا تخف فقط رأيتك بلا غطاء، فأحببت أن أغطيك بشالي. انتصب أمامي واقفاً، حمل الشال عن الأرض ورماه باتجاهي قائلا : لا أريد منك شيئاً، شالك الفخم هذا لا يدفئني ابتعدي عني، أمسكت بيده وقلت: لا أريد منك شيئاً أريد أن تسمعني لأساعدك، اهدأ واجلس نتحدث. نفض يده من يدي بعنف لا يليق بعمره ولا بطفولته، فهو لم يتعدّ سنواته العشر، نظر إليّ بحقد ثم أطلق ساقيه راكضاً إلى الاتجاه الآخر من المبنى. نظرت إلى الشاب صاحب المحل الذي كان ينام أمامه الصبي ، سألته : من هذا الصبي اخبرني بما تعرفه عنه، لماذا هو هنا وأين أهله؟ أرغب كثيراً بمساعدته أرجوك. قال الشاب: هذا الصبي لطيف جداً، لا يؤذي أحداً، منذ أكثر من سنة وهو يعمل طول النهار ثم يأتي ليفترش كرتونه ينام عليها، أحببناه جميعاً، حاولنا معرفة أي شيء فلم نستطع… اذهبي سيدتي مع صديقتك وبعد ساعة ستجدينه هنا وتتكلمين معه رغم أنني لا أتوقع أنْ تصلي معه إلى أي شئ. شكرت الشاب وقلت في نفسي: يجب أنْ أحاول، ثم ذهبت مع صديقتي نحتسي القهوة، كنا في أشد درجات التأثر لم نتحدث سوى عن الصبي، أخذنا نضع افتراضات كثيرة لسبب وجوده هنا، فكرنا ربما هو يتيم أو والداه مطلقان وربما لقيط أو ضائع من والديه أو .. أو .. قلت لصديقتي: أشعر أنني خرجت هذه الليلة، وفي هذه الظروف الجوية السيئة لألتقي هذا الصبي، مهما كانت قصته سوف أساعده سواء تجاوب معي أو لم يتجاوب لن أتركه هكذا وإلا ندمت طوال حياتي.
كانت كل أحاسيسي مع الصبي، نسيت أني تأخرت عن العودة إلى بيتي وابني إلا عندما ذكرتني صديقتي أن الساعة تقارب منتصف الليل، فقلت لها: لن أتحرك من هنا قبل أن أعرف قصته. هبطنا درجات المبنى وقلبي يخفق بسرعة، خائفة أن لا أجد الصبي بانتظاري ، لكنه كان جالساً على إحدى درجات المبنى محنيّ الرأس إلى الأمام وواضعاً كلتا كفيه على رأسه وكأنه يفكر كيف ينهي مشكلة كبيرة طرأت على حياته، فيعتصر أفكاره بهاتين الكفين الصغيرتين علّه يجد الحل. جلست إلى جانبه، فأسرع الشاب يحضر كرسياً لأجلس عليه قائلا ، لقد اتسخ معطفك سيدتي ، قلت: دع صديقتي تجلس عليه إنا سأبقى هنا بجانب … وصمت، فقال الشاب نبيل اسمه نبيل. وضعت ذراعي على كتفيه الضئيلتين وقلت .. ما أجمل اسمك يا بني، يليق هذا الاسم بصبي جميل ورائع مثلك، إن ابني في مثل عمرك، اسمه يزن، ألا تحب أن تتعرف عليه وتصبحا صديقين؟ ابتسم نبيل بسخرية قائلاً : وهل تقبل سيدة مثلك أن يصادق ابنها احد أولاد الشوارع؟ ابتسمت ممررة يدي فوق رأسه أمسحه بحنان وقلت: أقبل إذا أحبوا أن يغيروا أنفسهم فلا يعودون من أولاد الشوارع. نظر إلي وعلامات الاستهزاء والسخرية في نظراته وملامحه وقال: لكني لا أريد التغيير، وسأبقى ابن الشارع، هلاّ تركتني وذهبت إلى ابنك فهو أحق مني بعطفك ووقتك، إنا أكره الشفقة ولا أريد حناناً، أنا رجل واستطيع الاعتماد على نفسي لست بحاجة إلى أحد. نظرت إليه بإكبار وأكدت على كلامه، أنت فعلا رجل رغم صغر سنك ولأنك هكذا، أريد أن تتعاون معي من أجلك، أرجوك لا ترفض. صمت نبيل ثم تنهد بعمق وقال: أنت سيدة طيبة مثل كل هؤلاء الطيبين، لكني لا أريد مساعدة أحد، لا أحد يستطيع مساعدتي، ما أريده يجب أن أحققه بنفسي. – حسنا ولكني سوف أعود غداً ونتحدث مرة أخرى وسأحضر لك معي معطفاً أكبر من معطفك هذا ولن أجبرك على شئ أبدا – قال مستعجلا ، اتفقنا مع السلامة سيدتي… تركني واقفة ومدد جسده على قطعة الكرتون وغطى وجهه بالقطعة الصغيرة واتخذ وضعية الجنين ونام. فأنزلت شالي مرة أخرى عن كتفي وغطيته به وذهبت. عدت في اليوم التالي عند الغروب، لم يكن موجوداً، انتظرت ساعتين ولم يأت نبيل، نظرت إلى كرتونته بجانب الدرج وعليها شالي، قلت للشاب صاحب المحل سأعود بعد ساعة بالتأكيد سيكون موجوداً، لا تخبره بأنني أتيت أرجوك. أجاب الشاب بهدوء جاد: لم يعد نبيل منذ الصباح، استيقظ متأخراً على غير عادته كان عصبياً في حركاته مستفز المشاعر في نظرته حقد وكراهية لم أرهما من قبل، وخرج كعادته دون أنْ ينطق بكلمة. لم يفارق نبيل خيالي، كنت دائمة التفكير به ودائمة البحث عنه في المبنى ذاته وعند إشارات المرور كنت أنظر في وجه كل صبي يبيع عند إشارة المرور، وأحيانا اسأل بعضهم عن صبي مثلهم اسمه نبيل، لم يعرفه أحد. ذات ظهيرة من الصيف التالي لذلك الشتاء، عندما كنت في سيارتي عائدة من عملي، والشوارع مزدحمة بالسيارات والمشاة، وقفت أمام إشارة حمراء فركض صبي باتجاه الإشارة يحمل المناديل والعلكة، فصدمته سيارة صدمة قوية رمته إلى الرصيف المقابل. ركنت سيارتي ، ذهبت مسرعة إلى الصبي الضحية، متأملة أن يكون ما زال حيا، لكني سمعتهم يقولون مات المسكين، اقتربت منه أكثر وحين نظرت إليه … وقعت أرضا …